فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قَالُواْ} لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعادًا لكون ما هم عليه ضلالًا وتعجبًا من تضليله عليه السلام أياهم على أتم وجه {أَجِئْتَنَا بالحق} أي بالجد {أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} أي الهازلين فالاستفهام ليس على ظاهره بل هو استفهام مستبعد متعجب، وقولهم: {أَمْ أَنتَ} الخ عديله كلام منصف مومىء فيه بالطف وجه أن الثابت هو القسم الثاني لما فيه من أنواع المبالغة، وأشار في الكشاف كما في الكشف إلى أن الأصل هذا الذي جئتنا به أهو جد وحق أم لعب وهزل إلا أنه عدل عنه إلى ما عليه النظم الكريم لما أشير إليه.
وقال صاحب المفتاح: أي أجددت وأحدثت عندنا تعاطى الحق أم أحوال الصبا بعد على الاستمرار وهو أقرب إلى الظاهر وفيه الإشارة إلى فائدة العدول عن المعادل ظاهرًا وبيان المراد بالمجيء، وظاهر كلام الشيخين أن أم متصلة.
واختار العلامة الطيبي أنها منقطعة فقال: إنهم لما سمعوا منه عليه السلام ما يدل على تحقير آلهتهم وتضليلهم وآبائهم على أبلغ وجه وشاهدوا منه الغلظة والجد طلبوا منه عليه السلام البرهان فكأنهم قالوا هب إنا قد قلدنا آباءنا فيما نحن فيه فهل معك دليل على ما ادعيت أجئتنا بالحق ثم أضربوا عن ذلك وجاؤا بأم المتضمنة لمعنى بل الإضرابية والهمزة التقديرية فاضربوا ببل عما أثبتوا له وقرروا بالهمزة خلافه على سبيل التوكيد والبت، وذلك أنهم قطعوا أنه لاعب وليس بمحق البتة لأن إدخالهم إياه في زمرة اللاعبين أي أنت غريق في اللعب داخل في زمرة الذين قصارى أمرهم في إثبات الدعاوي اللعب واللهو على سبيل الَكِناية الإيمائية دل على إثبات ذلك بالدليل والبرهان، وهذه الَكِناية توقفك على أن أم لا يجوز أن تكون متصلة قطعًا وكذا بل فيما بعد انتهى؛ والحق أن جواز الانقطاع مما لا ريب فيه، وأما وجوبه ففيه ما فيه.
{قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذي فطَرَهُنَّ} أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جعلتها أنتم وآباؤكم وما تعبدون من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه، وهذا انتقال عن تضليلهم في عبادة الأصنام ونفي عدم استحقاقها لذلك إلى بيان الحق وتعيين المستحق للعبادة، وضمير {فطَرَهُنَّ} أما للسموات والأرض واستظهره أبو حيان، ووصفه تعالى بإيجادهن إثر وفه سبحانه بربوبيته لهن تحقيقًا للحق للحق وتنبيهًا على أن ما لا يكون كذلك بمعزل عن الربوبية التي هي منشأ استحقاق العبادة، وإما للتماثيل ورجح بأنه أدخل في تحقيق الحق وإرشاد المخاطبين إليه، وليس هذا الضمير من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات كما ظنه ابن عطية فتكلف لتوجيه عوده لما لا يعقل، وقوله تعالى: {وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين} تذييل متضمن لرد نسبتهم إياه عليه السلام إلى اللعب والهزل، والإشارة إلى المذكور، والجار الأول متعلق بمحذوف أي وأنا شاهد على ذلك من الشاهدين أو على جهة البيان أي أعني على ذلكم أو متعلق بـ الوصف بعده وإن كان في صلة أل لا تساعهم في المظروف أقوال مشهورة، والمعنى وأنا على ذلكم الذي ذكرته من العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنين عليه ولست من اللاعبين، فإن الشاهد على الشيء من تحققه وحققه وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليها وإثباته بها.
وقال شيخ الإسلام: إن قوله: {بَل رَّبُّكُمْ} الخ إضراب عما بنوا عليه مقالهم من اعتقاد كون تلك التماثيل أربابًا لهم كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل ربكم الخ؛ وقال القاضي: هو إضراب عن كونه عليه السلام لاعبًا بإقامة البرهان على ما أدعاهـ. وجعله الطيبي إضرابًا عن ذلك أيضًا قال: وهذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وكان من الظاهر أن يجيبهم عليه السلام بقوله بل أنا من المحقين ولست من اللاعبين فجاء بقوله: {بَل رَّبُّكُمْ} الآية لينبه به على أن إطالي لما أنتم عاكفون عليه وتضليلي إياكم مما لا حاجة فيه لوضوحه إلى الدليل ولَكِن انظروا إلى هذه العظيمة وهي أنكم تتركون عبادة خالقكم ومالك أمركم ورازقكم ومالك العالمين والذي فطر ما أنتم لها عاكفون وتشتغلون بعبادتها دونه فأي باطل أظهر من ذلك وأي ضلال أبين منه.
وقوله: {وَأَنَاْ على ذلكم مّنَ الشاهدين} تذييل للجواب بما هو مقابل لقولهم {أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} [الأنبياء: 55] من حيث الأسلوب وهو الَكِناية ومن حيث التركيب وهو بناء الخبر على الضمير كأنه قال: لست من اللاعبين في الدعاوي بل من العالمين فيها بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي نقطع به الدعاوي اهـ. ولا يخفى أنه يمكن إجراء هذا على احتمال كون أم متصلة فافهم وتأمل ليظهر لك أي التوجيهات لهذا الإضراب أولى.
{وتالله لاكِيدَنَّ أصنامكم} أي لأجتهدن في كسرها، وأصل الكيد الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهر خلافه وهو يستلزم الاجتهاد فتجوز به عنه، وفيه إيذان بصعوبة الانتهاز وتوقفه على استعمال الحيل ليختاطوا في الحفظ فيكون الظفر بالمطلوب أتم في التبكيت، وكان هذا منه عليه السلام عزمًا على الإرشاد إلى ضلالهم بنوع آخر، ولا يأباه ما روى عن قتادة أنه قال: نرى أنه عليه السلام قال ذلك من حيث لا يسمعون وقيل سمعه رجل واحد منهم، وقيل: قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين: وقيل إثنين وسبعين.
وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل {بالله} بالباء ثانية الحروف وهي أصل حروف القسم إذ تدخل على الظاهر والمضمر ويصرح بفعل القسم معها ويحذف والتاء بدل من الواو كما في تجاه والواو قائمة مقام الباء للمناسبة بينهما من حيث كونهما شفويتين ومن حيث أن الواو تفيد معنى قريبًا من معنى الإلصاق على ما ذكره كثير من النحاة.
وتعقبه في البحر بأنه لا يقوم على ذلك دليل، وقد رده السهيلي، والذي يقتضيه النظر إنه ليس شيء من هذه الأحرف أصلًا لآخر، وفرق بعضهم بين الباء والتاء بأن في التاء المثناة زيادة معنى وهو التعجب، وكان التعجب هنا من إقدامه عليه السلام على أمر فيه مخاطرة.
ونصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم، وفرق آخرون بينهما استعمالًا بأن التاء لا تستعمل إلا مع اسم الله الجليل أو مع رب مضافًا إلى اللكعبة على قلة {بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} من عبادتها إلى عيدكم.
وقرأ عيسى بن عمر {تَوَلَّوْاْ} من التولي بحذف إحدى التاءين وهي الثانية عند البصريين والأولى عند هشام، ويعضد هذه القراءة قوله تعالى: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات: 90] والفاء في {فَجَعَلَهُمْ} فصيحة أي فولوا فأتى إبراهيم عليه السلام الأصنام فجعلهم {جُذَاذًا} أي قطعًا فعال بمعنى مفعول من الجذ الذي هو القطع، قال الشاعر:
بنو المهلب جذ الله دابرهم ** أمسوا رمادًا فلا أصل ولا طرف

فهو كالحطام من الحطم الذي هو الكسر، وقرأ الكسائي وابن محيصن، وابن مقسم، وأبو حيوة، وحميد والأعمش في رواية {جُذَاذًا} بكسر الجيم، وابن عباس وابن نهيك وأبو السمال {جُذَاذًا} بالفتح، والضم قراءة الجمهور، وهي كما روى ابن جني عن أبي حاتم لغات أجودها الضم؛ ونص قطرب أنه في لغات أجودها الضم؛ ونص قطرب أنه في لغاته الثلاث مصدر لا يثنى ولا يجمع، وقال اليزيدي: جذاذًا بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة، وقيل: بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام، وقيل: هو بالفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود.
وقرأ يحيى بن وثابت {جُذَاذًا} بضمتين جمع جذيذ كسرير وسرر، وقرئ {جذذًا} بضم ففتح جمع جذة كقبة وقبب أو مخفف فعل بضمتين.
روى أن آزر خرج به في عيد لهم فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعامًا خرجوا به معهم وقالوا إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا فذهبوا فلما كان إبراهيم عليه السلام في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال: {إني سقيم} [الصافات: 89] فدخل على الأصنام وهي مصطفة وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكل بفأس كان في بده ولم يبق إلا الكبير وعلق الفأس في عنقه، وقيل: في يده وذلك قوله تعالى: {جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ} أي الأصنام كما هو الظاهر مما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وضمير العقلاء هنا وفيما مر على زعم الكفرة، والكبر إما في لمنزلة على زعمهم أيضًا أو في الجثة، وقال أبو حيان: يحتمل أن يكون الضمير للعبدة، قيل: ويؤيده أنه لو كان للأصنام لقيل إلا كبيرهم {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} استئناف لبيان وجه الكسر واستبقاء الكبير، وضمير {إِلَيْهِ} عند الجمهور عائد على إبراهيم عليه السلام أي لعلهم يرجعون إلى إبراهيم عليه السلام لا إلى غيره فيحاجهم ويبكتهم بما سيأتي من الجواب إن شاء الله تعالى، وقيل: الضمير لله تعالى أي لعلهم يرجعون إلى الله تعالى وتوحيده حين يسألونه عليه السلام فيجيبهم، ويظهر عجز آلهتهم ويعلم من هذا أن قوله سبحانه: {إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ} ليس أجنبيًّا في البين على هذا القول كما توهم نعم لا يخفى بعده.
وعن الكلبي أن الضمير للكبير أي لعلهم يرجعون إلى الكبير كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون له ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحًا والفأس في عنقك أو في يدك؟ وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ويظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم، وكأن هذا بناء على ظنه عليه السلام بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها.
ويحتمل أنه عليه السلام يعلم أنهم لا يرجعون إليه لَكِن ذلك من باب الاستهزاء والاستجهال واعتبار حال الكبير عندهم فإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل، وعلى الاحتمالين لا إشكال في دخول لعل في الكلام، ولعل هذا الوجه أسرع الأوجه تبادرًا لَكِن جمهور المفسرين على الأول، والجار والمجرور متعلق بـ يرجعون، والتقديم للحصر على الأوجه الثلاثة على ماقيل، وقيل: هو متعين لذلك في الوجه الأول وغير متعين له في الأخيرين بل يجوز أن يكون لأداء حق الفاصلة فتأمل.
وقد يستأنس بفعل إبراهيم عليه السلام من كسر الأصنام لمن قال من أصحابنا إنه لا ضمان على من كسر ما يعمل من الفخار مثلًا من الصور ليلعب به الصبيان ونحوهم وهو القول المشهور عند الجمهور. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ} أي: بالجد في دعوى الرسالة ونسبتنا إلى الضلال: {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} قال الزمخشريّ رحمه الله: الضمير في فَطَرَهُنَّ للسماوات والأرض أو للتماثيل. وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. أي: لدلالته صراحة على كونها مخلوقة غير صالحة للألوهية، بخلاف الأول، وجوابه عليه السلام إما إضراب عما بنوا عليه مقالتهم في اعتقاد كونها أربابًا لهم، كما يفصح عنه قولهم: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71]، كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل: {رَبُّكُمْ} الآية. أو إضراب عن كونه لاعبًا بإقامة البرهان على ما ادعاه. وقوله: {مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي: المبرهنين عليه بالحجة، لا لقولكم العاطل منها.
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} لأحتالن لفضيحتها بإظهار عجزها: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي: عنها بفراغكم من عبادتها.
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} أي: قطعًا مكسرة، بعد أن ولوا عنها، ليعلموا أنها لا تتحلم إلى هذا الحدّ. فهو عجّزهم في الدفع عن أنفسهم. فتوقعُ عابدهم الدفع عن نفسه غاية السفه: {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي: فيسألونه: لم فعل بآلهتهم؟ فإذا ظهر عجزه عن النطق، فمن دونه أعجز منه في ذلك. فضلًا عن الدفع للذي أظهر عجزهم فيه. فرجعوا فأتوا بيت الأصنام فوجدوها جذاذًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ولإنكارهم أن يكون ما عليه آباؤهم ضلالًا، وإيقانِهم أن آباءهم على الحق، شَكُّوا في حال إبراهيم أنطَق عن جِد منه وأن ذلك اعتقاده فقالوا {أجئتنا بالحق}، فعبروا عنه {بالحق} المقابل للعب وذلك مسمى الجِدّ.
فالمعنى: بالحق في اعتقادك أم أردت به المزح، فاستفهموا وسألوه {أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين}.
والباء للمصاحبة.
والمراد باللعب هنا لعب القول وهو المسمّى مزحًا، وأرادوا بتأويل كلامه بالمزج التلطّفَ معه وتجنبَ نسبته إلى الباطل استجلابًا لخاطره لما رأوا من قوة حجته.
وعُدل عن الإخبار عنه بوصف لاعب إلى الإخبار بأنه من زمرة اللاعبين مبالغة في توغل كلامه ذلك في باب المزح بحيث يكون قائله متمكنًا في اللعب ومعدودًا من الفريق الموصوف باللعب.
وجاء هو في جوابهم بالإضراب عن قولهم {أم أنت من اللاعبين} لإبطال أن يكون من اللاعبين، وإثبات أن ربهم هو الرب الذي خلق السماوات، أي وليست تلك التماثيل أربابًا إذ لا نزاع في أنها لم تخلق السماوات والأرض بل هي مصنوعة منحوتة من الحجارة كما في الآية الأخرى {قال أتعبدون ما تنحتون} [الصافات: 95] فلما شذّ عنها خلق السماوات والأرض كما هو غير منكَر منكم فهي منحوتة من أجزاء الأرض فما هي إلاّ مربوبة مخلوقة وليست أربابًا ولا خالقة.
فضمير الجمع في قوله تعالى: {فطرهنّ} ضمير السماوات والأرض لا محالة.
فكان جواب إبراهيم إبطالًا لقولهم {أم أنت من اللاعبين} معَ مستند الإبطال بإقامة الدليل على أنه جاءهم بالحق.
وليس فيه طريقة الأسلوب الحكيم كما ظنه الطيبي.
وقوله تعالى: {وأنا على ذلكم من الشاهدين} إعلام لهم بأنه مُرسل من الله لإقامة دين التوحيد لأن رسول كلّ أمة شهيد عليها كما قال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} [النساء: 41]، ولم يكن يومئذ في قومه من يشهد ببطلان إلهية أصنامهم، فتعين أن المقصود من الشاهدين أنه بعض الذين شهدوا بتوحيد الله بالإلهية في مختلف الأزمان أو الأقطار.
ويحتمل معنى التأكيد لذلك بمنزلة القَسَم، كقول الفرزدق:
شهد الفرزدق حين يلقى ربه ** أن الوليد أحقُّ بالعذر

ثم انتقل إبراهيم عليه السلام من تغيير المنكر بالقول إلى تغييره باليد معلنًا عزمه على ذلك بقوله: {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} مؤكدًا عزمه بالقسم، فالواو عاطفة جملة القسم على جملة الخبر التي قبلها.
والتاء تختص بقسممٍ على أمر متعجب منه وتختص باسم الجلالة.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف} [يوسف: 85].
وسمى تكسيره الأصنام كَيْدًا على طريق الاستعارة أو المشاكلة التقديرية لاعتقاد المخاطبين أنهم يزعمون أن الأصنام تدفع عن أنفسها فلا يستطيع أن يمسها بسوء إلا على سبيل الكيد.
والكيْد: التحيل على إلحاق الضر في صورة غير مكروهة عند المتضرر.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {إن كيدكن عظيم} في [سورة يوسف: 28].
وإنما قيد كيده بما بعد انصراف المخاطبين إشارة إلى أنه يلحق الضر بالأصنام في أول وقت التمكن منه، وهذا من عزمه عليه السلام لأن المبادَرة في تغيير المنكر مع كونه باليد مقام عزم وهو لا يتمكن من ذلك مع حضور عبدة الأصنام فلو حاول كسرها بحضرتهم لكان عمله باطلًا، والمقصود من تغيير المنكر: إزالته بقدر الإمكان، ولذلك فإزالته باليد لا تكون إلا مع المكنة.
{ومدبرين} حال مؤكدة لعاملها.
وقد تقدم نظيره غير مرة منها عند قوله تعالى: {ثم وليتم مدبرين} في [سورة براءة: 25].
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}.
الضميران البارزان في {جعلهم} وفي {لهم} عائدان إلى الأصنام بتنزيلها منزلة العاقل، وضمير {لعلهم} عائد إلى قوم إبراهيم، والقرينة تصرف الضمائر المتماثلة إلى مصارفها مثل ضميري الجمع في قوله تعالى: {وعمروها أكثر مما عمروها} [الروم: 9].
والجُذاذ بضم الجيم في قراءة الجمهور: اسم جمع جُذاذة، وهي فُعالة من الجذّ، وهو القطع مثل قُلامة وكُناسة، أي كسرهم وجعلهم قطعًا.
وقرأ الكسائي {جِذاذًا} بكسر الجيم على أنه مصدر، فهو من الإخبار بالمصدر للمبالغة.
قيل: كانت الأصنام سبعين صنمًا مصطفة ومعها صنم عظيم وكان هو مقابل باب بيت الأصنام، وبعد أن كسرها جعل الفأس في رقبة الصنم الأكبر استهزاء بهم.
ومعنى {لعلهم إليه يرجعون} رجاء أن يرجع الأقوام إلى استشارة الصنم الأكبر ليخبرهم بمن كسر بقية الأصنام لأنه يعلم أن جهلهم يطمعهم في استشارة الصنم الكبير.
ولعل المراد استشارة سدنته ليخبروهم بما يتلقونه من وحيه المزعوم.
وضمير {لهم} عائد إلى الأصنام من قوله: {أصنامكم} [الأنبياء: 57].
وأجري على الأصنام ضمير جمع العقلاء محاكاة لمعنى كلام إبراهيم لأن قومه يحسبون الأصنام عقلاء، ومثله ضمائر قوله بعده {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} [الأنبياء: 63].
وهذا العمل الذي عمله إبراهيم عمله بعد أن جادل أباه وقومه في عبادة الأصنام والكواكب ورأى جماحهم عن الحجة الواضحة كما ذكر في سورة الأنعام. اهـ.